samedi 27 avril 2013
09:08

إفادات "أبي حامد الغزالي" في علم أصول الفقه من خلال كتابه-المستصفى


بسم الله الرحمان الرحيم
مثل الإمام الغزالي قطبا في اهتمامات العلماء و مشاغل الناس و قل منهم من عاصره أو جاء بعده ولم يكن له موقف منه بالموافقة أو المخالفة،ألّف في العلوم المزدهرة في عصره وناقش المذاهب و الفرق المختلفة في العقائد و الأصولو الفقه و الفلسفة و التصوف و غيرها، وردّ على كل مذهب كلامي أو فقهي رأى فيه شططا أو قصورا أو حيادا عن العقل و المنطق و إنما الذي يهمنا من شخصيته الجانب الشرعي الأصولي حتى نقف على إفاداته و آرائه الأصولية من خلال كتابه "المستصفى" و هو كتاب وصفه بالـمتوسط فلا هو مـبسوط كـكتابه"تهذيـب الأصول" و لا هو مختصر ككتابه"المنخول" ألّفه في أواخر حياته بعد نضج عقليّ و استكمال معرفيّ بما يؤشر أنه من أحسن ما كتب في العلوم الشرعية و أساسا في علم أصول الفقه .
افتتح كتابه بالحمد الذي يبدأ به أول الكلام ثم وصف الله تعالى بأوصاف القدرة و النصرة و اللطف و القهر و منها أنه جعل العقل أرجح الكنوز و الذخائر (1) وفي هذا الجعل تطرق إلى بيان دور العقل و تكريمه وانه الحاكم الضروري و الواجب وجوده و أنه يمثل مع الشرع الذي هو شاهد، طرفي التحكيم المعرفي يقول :"أما بعـد فقد تـناطق قاضي العـقل وهو الحـاكم الذي لايعزل
و لا يبدّل و شاهد الشرع وهو الشاهد المُزكّى المعدّلُ بأن الدنيا دار غرور لا دار سرور و مطية عمل لا مطية كسل كما بين أن العقل هو اشرف الأشياء لأنه مركب الديانة و حامل الأمانة (2) وعلى هذاالأساس تتميز الإفادة الأولى.

الإفادة الأولى: تقوية دور العقل في معرض الاستدلال وفي معرض الاحتجاج للحكم الشرعي وتقديمه على الصيغ اللفظية:

 ففي بيان معنى الواجب، يقول : "الواجب وهو العزم على الفعل وأن ضدّه هو العزم على التّرك، حرام و ما لا خلاص من الحرام إلا بهف هو واجب ثم قال: " فهذا الدليل (القول بالعكس) قد دل على وجوبه وإن لم يدل عليه مجرّد الصيغة من حيث وضع اللسان ودليل العقل أقوى من دلالة الصيغة (3) وفي بيان أن العقل شرط التكليف يقول : "وشرطه أن يكون عاقلا، يفهم الخطاب، فلا يصح خطاب الجماد والبهيمة، بل خطاب المجنون والصبي الذي لا يميز لأن التكليف مقتضاه الطاعة والامتثال ولا يمكن ذلك إلا بقصد الامتثال وشرط القصد، العلم بالمقصود و الفهم للتكليف، فكل خطاب متضمن للأمر بالفهم فمن لا يفهم كيف يقال له افهم (4) فإن قيل قد وجبت الزكاة والغرامات والنفقات على الصبيان، قلنا ليس ذلك من التكليف في شيء، إذ يستحيل التكليف بفعل... وإنما المحال أن يقال لمن لا يفهم افهم، وأن يخاطب من لا يسمع ولا يعقل، وأما أهلية ثبوت الأحكام فــي الذمــة فــمستفاد من الإنسانية.

-----------------------------------------------
1-  المستصفى: ص 2
2-  المستصفى: ص 3
3-  المستصفى: 1/70
4-  المستصفى: 1/83
 -----------------------------------------------

 التي بها يستعد لقبول قوة العقل الذي به فهم التكليف في تأتّي الحال حتى إن البهيمة لما لم تكن لها أهلية فهم الخطاب بالفعل ولا بالقوة لم تتهيأ لإضافة الحكم إلى ذمتها...(1).
تكليف الناسي والغافل عما يكلف محال "إذ من لايفهم، كيف يقال له افهم... وكذلك تكليف السّكران الذي لا يعقل محال كتكليف الساهي والمجنون والذي يسمع ولا يفهم:(2).
وفي أكثر من مبحث تعرّض لذكر دور العقل وتحديد مجاله،يقول في" مبحث الأدلة".
أدلة الأحكام أربعة:
-        الكتاب
-        السنة
-        الإجماع
-        دليل العقل المقرر على النفي الأصلي
بمعنى أن العقل لا يدل على الأحكام الشرعية، بل يدلّ على نفي الحكم عند انتفاء السمع فتسمية العقل أصلا من أصول الأدلة تًجوّزٌ(3)
وفي حديثه عن الأصل الرابع : وهو دليل العقل والاستصحاب، يفصّل دور العقل في الأحكام الشرعية فيقول: " اعلم أن الأحكام السمعية لاتدرك بالعقل، لكن دل العقل على براءة الذمة عن الواجبات، ذلك أن النظر في الأحكام إما أن يكون في إثباتها أو في نفيها.
أما اثباتها فالعقل قاصر عن الدلالة عليه، وأما النفي فالعقل قد دلّ عليه إلى أن يرد الدليل السمعي بالمعنى الناقل من النفي الأصلي فانتهض دليلا على أحد الشطرين وهو النفي.
إن عدم العلم بالدليل ليس بحجة والعلم بعدم الدليل حجة ويضرب لذلك مثلا كالذي يقدر على التردد في بيته لطلب متاع، إذا فتش وبالغ أمكنه أن يقطع بنفي المتاع أو يدّعي غلبة الظن، أما الأعمى الذي لا يعرف البيت ولا يبصر ما فيه،فليس له أن يدعي نفي المتاع من البيت(1) إن العقل دل على البراءة الأصلية بشرط أن لا يدل دليل السمع، فلا يبقى له دلالة مع وجود دليل السمع(2). وعلى أساس هذه الإفادة الأولى أسس الإفادة الثانية.

الإفادة الثانية :امتزاج العقل والنقل في علم أصولالفقه:

وهو أن أشرف العلوم ذاك العلم الذي امتزج فيه العقل و السمع و اصطحب فيه الرأي و الشرع  فإنه في  تقسيمه للعلوم جعلها ثلاثة وهي :
·    عقلي محض: لا يحث الشرع عليه و لا يندب إليه وهو علم بلا أخلاق و لا قيم والمقصود بعدم  الحث أنه لايُندب الناس إليه منفردا فإن كان يطلب مع غيره من العلوم الأخرى فلا ضرر منه كالعلوم الرياضية و الفيزيائية و غيرها.
·    و نقليّ محض كالأحاديث و التفاسير يكفي فيها قوة الحفظ وليس فيها مجال للعقل.
·    ما ازدوج فيها العقل و السمع، و علم الفقه و أصوله من هذا القبيل فإنه يأخذ من صفو الشرع و العقل سواء السبيل فلا هو تصرف بمحض العقول بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول و لا هو مبنيّ على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسديد ولذلك فهو أشرف العلوم.

-----------------------------------------------
1-  المستصفى: 1/84
2-  المستصفى: 1/84
3-  المستصفى: 1/100
-----------------------------------------------

و هذه دعوة إلى الالتفات إلى أفضلية هذا العلم لجمعه بين المنقول و المعقول، بعد أن تظافر عند طائفة من علماء أصول الدين و العقيدة أن علم النظر و العقل الذي هو علم الكلام هو أشرف العلوم فأراد الغزالي أن ينبه على حقيقة بارزة أن العلماء الكبار الذين أثروا في الحياة الإسلامية في مختلف جوانبها و كان لهم حضور علمي بارز هم علماء الاجتهاد في الفقه و أصوله منأعلام الصحابة و التابعين و أصحاب المدارس الفقهية كأبي حنيفة و مالك و الأوزاعي و الثوري و الشافعي و أحمد و منجرى على مذاهبهم و سنتهم في العلم و الفضل و لذلك قال الغزالي في صدر كتابه "ولأجل شرف علم الفقه وسببه وفّر الله دواعي الخلق على طلبه و كان العلماء به أرفع العلماء مكانا و أجلهم شأنا و أكثرهم أتباعا و أعوانا فتقاضاني في عنفوان شبابي اختصاص هذا العلم بفوائد الدين و الدنيا و ثواب الآخرة و الأولى و أن أصرف إليه منمهلة العمر و أن أخص من متنفس الحياة قدرا فصنفت كتبا كثيرة في فروع الفقه و أصوله ثم أقبلت بعده على علم طريق الآخرة و معرفة أسرار الدين الباطنة " فتجده ألّففي المقاصد والتصوف وأسرار الدين ومعاني القرآن كتبا بعد أن تضلّع في الفقه وأصوله و كأنه يشير إلى أن التأليف في هذه العلوم الدقيقة المترامية الأطرف الآخذة بمعاني الحقائق الشرعية يجب أن تؤسس على علم الفقه و أصوله، ويكون البحث فيها بعد تحصيل الفقه والأصول والنبوغ فيه، وأن العلوم الإسلامية انتكست واضطربت لأن الناس حاولوا أن ينطلقوا من أطراف العلوم الشرعية لا من أسسها وقواعدها.
ولذلك كان علماء القرون الثلاثة الأولى من الإسلام على اطّلاع واسع بمختلف العلوم الشرعية ولهم فيها أقوال مأثورة وعبرٌ منقولة، لأنهم انطلقوا في تحصيل المعرفة من حيث يجب الانطلاق وانتهوا إلى حيث يجب الانتهاء وهذا اعتراف منه، بأن علم الكلام دونه، لا كما ذهب إلى ذلك شيخه الجويني.
فعلم الفقه وأصوله جمع بين الرفعة والشرف وكثرة الأتباع وحاجة الناس إليه، وهذا لا يتوفر في العلوم الشرعية الأخرى حتى ولو كانت علوم الآثار والسنن أو علوم القراءات والتفسير، لأن هذه العلوم حاصلة في الفقه وليس علم الفقه وأصوله حاصل فيها فعلم الفقه يستوعبها ولا تستوعبه، ويشملها ولا تشمله. و في الحديث الصحيح " فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه" وحامل الفقه هوالمحدّث.
و في إطار بيان شرف علم الفقه، ولما تطرق إلى تعريف علم أصول الفقه ذكر تعريفين:

الأول: تعريف باعتبار الإضافة: أي بإضافة الأصول إلى الفقه(وهذا هو اختياره).
الثاني: تعريف باعتبار اللقب: أي باعتباره علما مستقلا.

وفي التعريف الإضافي، يكون علم الأصول قد اكتسب قيمته وأهميته باعتبار انبناء الفقه عليه، فعلم الفروع هو المقصود، وهذا الاختيار من الغزالي في تعريف الفقه باعتبار الإضافة، هو ما اختاره أكثر الأصوليين من مختلف المذاهب قبله، في النظر إلى الأصول على أنها خادمة في تحصيل الفقه.
والدليل على ذلك، ما ذكره أبو إسحاق الشيرازي وهو من أيمة الشافعية ت 476هـ، قال: "وأما أصول الفقه فهي أدلة الفقه"(1).
وما ذكره أبو الوليد الباجي وهو من أيمة المالكية وهومعاصر لشيوخ الغزالي يقول: "الفقه معرفة الأحكام الشرعية، وأصول الفقه ما انبنت عليه معرفة الأحكام الشرعية" (2).

الإفادة الثالثة: المنهج التدريسي والتقريري في كتابه - المستصفى:

ففي (صدر الكتاب) يقول "اعلم أن هذا العلم الملقب بأصول الفقه قد رتبناه وجمعناه في هذا الكتاب وبنيناه على مقدمة وأربعة أقطاب(3).
وفي (بيان حد أصول الفقه) يقول "اعلم أنّك لا تفهم معنىأصول الفقه ما لم تعرف أولا معنى الفقه(4).
وفي (بيان مرتبة هذا العلم ونسبته إلى العلوم)، يقول:"اعلم أن العلوم تنقسم إلى عقلية كالطب والحساب والهندسة وليس ذلك من غرضنا، و إلى دينية كالكلام والفقه وأصوله وعلم الحديث وعلم التفسير وغيرها(5).
وفي (بيان كيفية دورانه على الأقطاب الأربعة) يقول: "اعلمأنك إذا فهمت أن نظر الأصولي... لم يخف عليك أن المقصود...(6)
وفي (بيان حد أصول الفقه) يقول: "فإذا فهمت هذا،فافهم أن أصول الفقه عبارة عن أدلة هذه الأحكام، وعن معرفة وجوه دلالتها علىالأحكام"(7).
·     فأسلوبه تقريري،قائم على تداعي الأفكار وتسلسلها وترابطها وإفضاء بعضها إلى بعض. ويظهر ذلك منقوله :"اعلم أنك إذا فهمت... لم يخف عليك أن المقصود..."
·     ومنهجه في التأليف مدرسي يقوم على طريقة تحديد محاور البحث وعناصر الموضوع والتمهيد له بمقدمة، يذكر فيها العلم الذي سيبحث فيه مع ذكر التعريف اللغوي والاصطلاحي،وعلاقته بسائر العلوم الشرعية الأخرى وبيان الفرق بينها ثم يتطرق إلى بيان أقسامالعلم الذي يبحث فيه، وتحديد الفوارق بين هذه الأقسام ثم يذكر لماذا بدأ بهذا العلم قبل ذكر الأقسام الأخرى.
يقول : القطب الأول في الأحكام والبداءة بها أولى لأنهاالثمرة المطلوبة، القطب الثاني في الأدلة، وبها التثنية، إذ بعد الفراغ من معرفةالثمرة لا أهمّ من معرفة المثمر8.

-----------------------------------------------
1-  شرح اللمح: 1/161
2-  إحكام الفصول فصلبيان الحدود ص 171.
3-  المستصفى ص 4
4-  المستصفى ص 4
5-  المستصفى ص 5
6-  المستصفى ص 7
7-  المستصفى ص 5
8-  المستصفى ص 8
-----------------------------------------------

·     طريقة التذكيروإعادة التنبيه على المسائل، والعود في مخاوضتها ومراجعتها والحديث عنها بألفاظمتجانسة وشروح متقاربة، وهي مواصفات المنهج التدريسي، فكأنه حين يكتب، يتكلم فيدرس أو محاضرة علمية أمام الطلبة مثال ذلك ( فإذا فهمت هذا، فافهم أن أصول الفقهعبارة عن أدلة هذه الأحكام) وكذلك قوله (اعلم أنك إذا فهمت... لم يخف عليك أنالمقصود معرفة كيفية اقتباس الأحكام من الأدلة، فوجب النظر في الأحكام ثم فيالأدلة وأقسامها ثم في كيفية اقتباس الأحكام من الأدلة ثم في صفات المقتبس الذي لهأن يقتبس الأحكام، فإن الأحكام ثمرات فلها صفة وحقيقة والثمرة هي الأحكام، فإنجملة الأصول تدور على أربعة أقطاب، القطب الأول) وقد كان أشار إلى هذه الأقطابفيما مضى من المباحث، وهذا منه مقصود لترسيخ هذه العلوم النظرية المتصلة بعلم أصولالفقه، الذي هو علم صعب التحصيل على الطلبة، ولذلك لم يكن يدرس بالزيتونة إلاّ فيالمرحلة الثانية من التعليم العالي بعد تحصيل علوم الفقه والحديث والتفسير وغيرها.
ثمهو في مبحث بيان كيفية اندراج الشُعب الكثيرة من أصول الفقه تحت هذه الأقطابالأربعة بيّن لماذا حصر علم أصول الفقه في هذه الأقطاب الأربعة، ومدى اشتمال هذاالعلم على أبواب كثيرة وفصول منتشرة، ويذكر تحت كل قطب ما يتصل به من مباحثوتفريعات ومسائل ومدى ارتباطها بهذا القطب1 وطريقته في بحث القضايا تنمّ عنامتلاكه لمنهجيّة علمية محكمة تتصل فيها المباحث بفصولها وتتصل الفصول بأبوابهاالتي تتجانس معها، وتتصل الأبواب بأقطابها، هذه الأقطاب التي حددها في مقدمة كتابهوبيّن أن البحث سيتركز فيها.
ثمفي عرضه لهذا الاسترسال وترابط المباحث والمطالب بعضها ببعض، يشير إلى جملة منتفاريق الأصول أوردها الأصوليون مبددة في مواضع شتى لا تتناسب ولا تجمعها رابطة،وذكر أن الطالب لا يهتدي إلى مقاصدها ووجه الحاجة إلى معرفتها وكيفية تعلقها بأصولالفقه2 فكأنه يُلمّحُ إلى اضطراب في منهجية التأليف عند بعض الأصوليين،فكتاباتهمبهذه الطريقة المبدّدة للمعارف والمشتتة لها، تُعسّر العلم ولا تُيسره، وتدخل علىالطالب العنت فلا يهتدي إلى ترابط الأفكار والمعاني، فالرجل متناسب مع شخصيته كمدرّس،وفيّ لهذه الشخصية التعليمية، يراعي في تأليفه وخاصة في كتبه الأصولية – قدراتالطالب وإمكاناته العلمية وحدود معرفته ولذلك نجده يؤسس للعلم بتوطئة المباحثوتفريع الأقسام وتيسيرها وربط المسائل بعضها ببعض والتذكير بها، مع تجنب الإغراب وانتقاءالألفاظ المناسبة لما يتكلم فيه.

-----------------------------------------------
1-  القطب هو مجمعالبحث
2-  المستصفى ص 8.
-----------------------------------------------

الإفادة الرابعة: ضرورة تخليص علم أصول الفقه من المباحث المجانبة له:

نقد الغزالي الأصوليين من المتكلّمين لحشرهم مباحث لاتتصل بأصول الفقه فهو في مبحث (بيان المقدمة ووجه تعلق الأصول بها) بيّن أن الأصوليين حينما شرعوا في بيان حد العلم، والدليل والنظر (1) لم يقتصروا على تعريف صور هذه الأمور، ولكن انجر بهم إلى إقامة الدليل على إثبات العلم على منكريه من السفسطائية(2) وإلى إقامة الدليل على النظر على منكري النظر من الظاهرية، وإلى جملة من أقسام العلوم وأقسام الأدلة، وذلك مجاوزة لحد هذا العلم وخلط له بالكلام(3) وإنما أكثر فيه المتكلمون من الأصوليين لغلبة الكلام على طباعهم، فحملهم حب صناعتهم على خلطه بهذه الصنعة كما حمل حبّ اللغة والنحو بعض الأصوليين على مزج جملة من النحو بالأصول فذكروا فيه من معاني الحروف ومعاني الإعراب جملا هي من علم النحو خاصة وكما حمل حب الفقه جماعة من فقهاء ما وراء النهر كأبي زيد الدبوسي – رحمه الله-وأتباعه على مزج مسائل كثيرة من تفاريع الفقه بالأصول فإنهم وإن أوردوها في معرض المثال وكيفية إجراء الأصل في الفروع فقد أكثروا فيه وعذر المتكلمين في ذكر حد العلم والنظر والدليل في أصول الفقه أظهر من عذرهم في إقامة البرهان على إثباتها على المنكرين وإنما مؤاخذته الأصوليين في إسرافهم في خلط هذه المسائل بالأصول وإلا فإنه لا مانع من الإشارة إليها، والاقتصار على ما تظهر فائدته منها يقول:"وبعد أن عرفناك إسرافهم في هذا الخلط، فإنا لا نرى أن نخلي هذا المجموع عن شيء منه لأنّ الفطام عن المألوف شديد والنفوس عن الغريب نافرة، لكنا نقتصر من ذلك على ما تظهر فائدته على العموم في جملة العلوم من تعريف مدارك العقول وكيفية تدرّجها من الضروريات إلى النظريات على وجه يتبين فيه حقيقة العلم والنظر والدليل وأقسامها و حججها تبيينا بليغا تخلو عنه مصنفات الكلام(4).
وقد خصّ كل هذه المدارك (البراهين والحدود) في مقدمة الكتاب التي جاءت بعد "صدر الكتاب"(5) وذكر أنها ليست خاصة بعلم أصول الفقه ولا مقدماته، بل هي مقدمة العلوم كلّها و"أن من لا يحيط بها فلا ثقة له بعلومه أصلا"(6) وأنه من شاء أن لا يكتب هذه المقدمة فليبدأ بالكتاب من القطب الأول (الأحكام) وهذا أوضح دليل على أنه صنف هذا الكتاب لطلبته.
وقال في الفن الثاني من دعامة الحد في الامتحانات للقوانين
وقد أكثرنا أمثلتها في كتاب"معيار العلم" و "محك النظر" ونحن الآن مقتصرون على حد العلموحد الواجب، لأن هذا النمط من الكلام دخيل في علم الأصول فلا يليق فيه الاستقصاء.

-----------------------------------------------
1-     باعتبار أن علم أصول الفقه: هومعرفة أدلة الأحكام وطريقة اقتباس الأحكام منها احتاج الأمر إلى بيان العلموالدليل والنظر.
2-  انظر ما قالهالجويني في البرهان.
3-  أي بعلم الكلام
4-  المستصفى 1/10
5-  وتقع المقدمة فيخمس وأربعين صفحة (من الصفحة 10 إلى الصفحة55)
6-  المستصفى 1/10
-----------------------------------------------

الإفادة الخامسة: الأصل في العلوم الشرعية اعتبار المعاني لا المباني


يقوم تأسيس المفاهيم الأصولية عند الغزالي على فكرة أساسية وهي لا مشاحة في الاصطلاح إذا كان المعنى الذي تؤدي إليه هذه المفاهيم محل اتفاق وتقارب في تحديد الجنس والحقيقة وهذه الفكرة الأساسية تعترض في كثير من مسائل الكتاب، يبرز فيها أن العبرة في المسائل الأصولية تستخلص من المعاني لا من الأسامي، ولذلك نجده ينقد التوجه الشكلي في الفقه الإسلامي، والذي أسست له المدرسة الظاهرية.
وسأورد نماذج من هذه السياقاتالتي لا تحجر الوقوف على الألفاظ، ففي الفن الثاني المتعلق بأقسام الأحكام الشرعية يتحدث عن حد الواجب فيقول: قال قوم: "إنه الذي يعاقب على تركه"، فاعترض عليه بأن الواجب قد يعفى من العقوبة على تركه ولا يخرج عن كونه واجبا، لأن الوجوب ناجز و العقاب منتظر وقيل : "ما توعّد بالعقاب على تركه" فاعترض عليه بأنه لو توعّد لوجب تحقيق الوعيد فإن كلام الله تعالى صدق ويتصور أن يُعفى عنه ولا يعاقب،وقيل " ما يخاف العقاب على تركه" ثم يعرض لمفهوم الفرض والواجب ويراهما مترادفين – كما هو قول الجمهور- ثم يذكر تفريق الحنفية بينهما من حيث الدليل لا منحيث الحكم ثم يعلق على هذا التفريق بقوله: "ونحن لا ننكر انقسام الواجب إلى مقطوع ومظنون ولا حجر في الاصطلاحات بعد فهم المعاني"(1) وفي بيان وصف السبببالصحة والبطلان والفساد يعرض لمفهوم "الصحة" عند المتكلمين وعندالفقهاء، فعند المتكلمين "الصحيح هو عبارة عما وافق الشرع وجب القضاء أو لميجب" وعند الفقهاء عبارة عما أجْزأ وأسقط القضاء فمن صلى وظن أنه متطهرفصلاته صحيحة في اصطلاح المتكلمين لأنه وافق الأمر المتوجه عليه في الحال وأما القضاء فوجوبه بأمر مجدد فلا يشتق منه اسم الصحة و هذه الصلاة فاسدة عند الفقهاء لأنها غير مجزئة "ثم يقول" وهذه الاصطلاحات وإن اختلفت فلا مشاحة فيهاإذ المعنى متفق عليه"(2).
وفي"حد البيان" قال هو عبارة عن أمر يتعلق بالإعلام و إنما يحصل الإعلام بدليل والدليل محصل للعلم فههنا ثلاثة أمور: إعلام ودليل به الإعلام وعلم يحصل منالدليل فمن الناس من جعله عبارة عن التعريف والإعلام فقال في حده: "هو إخراج الشيء من حيّز الإشكال إلى حيّز التجلّي" ومن الناس من جعله عبارة عن الدليل فقال في حدّه: " إنه الدليل الموصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بما هو دليل عليه " ومنهم من جعله "عبارة عن نفس العلم وهو تًبيّنُ الشيء" فكأن البيان عنده والتبيين واحد ثم قال: ولا حجر في إطلاق اسم البيان على كل واحد منهذه الأقسام الثلاثة إلا أن الأقرب إلى اللغة وإلى المتداول بين أهل العلم ما ذكرهالقاضي إذ يُقالُ لمن دَلّ غيره على الشيء بيّنه له(3).

-----------------------------------------------
1-  المستصفى: 1/66
2-  المستصفى 1/94-95
3-  المستصفى 1/365
-----------------------------------------------

وفي المبحث الثالث: فيما يتعلق بفهم التعليل من إضافة الحكم إلى الوصف المناسب، ففي قوله تعالى "إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجّار لفي جحيم(1)، أي لبرّهم وفجورهم وكذلك كل ما خرج مخرج الذم والمدح والترغيب والترهيب وكذلك إذا قال " ذم الفاجر وامدح المطيع وعظم العالم فجميع ذلك يفهم منه التعليل من غير نطق به وهذا قد يسمى إيماء وإشارة كما يسمى فحوى الكلام ولحنه وإليك الخيرة في تسميته بعد الوقوف على جنسه وحقيقته(2).
وفي المبحث الذي عقده في فهم غير المنطوق به من المنطوق بدلالة سياق الكلام ومقصوده كفهم تحريم الشتم والقتل والضرب من قوله تعالى "فلاتقل لهما أُف ولا تنهرهما"3 ثم قال :" وهذا قد يسمى مفهوم الموافقة وقد يسمى فحوى اللفظ ولكل فريق اصطلاح آخر فلا تلتفت إلى الألفاظ واجتهد في إدراك حقيقة هذا الجنس (4) وفي بيان مفهوم المخالفة قال : " وربّما سمي هذا دليل الخطاب ولا التفات إلى الأسامي(5).
ويردّ على الظاهرية في عدم الأخذ بدلالة الاقتضاء. ففي مسألة "المسافر يقضي الصوم" أورد مذهب أهل الظاهر ورذّ عليه لأنهم أخذوا بمبنى النص من دون أن يعتبروا ما دل عليه الكلام اقتضاء،حتى يصح معناه أو يصدق ومن دون اعتماد ما نقل عن صحابة رسول الله صلى الله عليهوسلم يقول: " مذهب أصحاب الظاهر أن المسافر لا يصح صومه في السفر لقوله تعالى: "فعدةٌ من أيام أخر"(6)، فلم يأمر إلاّ بأيام أخر وهو فاسد، لأن سياق الكلام يفهمنا إضمار الإفطار ومعناه من كان منكم مريضا أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر، كقوله تعالى "فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه"(7)... يعني فضرب فانفجرت، ولأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
في السفر كانوا يصومون ويفطرون ولا يعترض بعضهم على بعض،كما نقد أيضا في نفس المسألة مذهب أبي الحسن الكرخي (وهو من الحنفية) الذي قال إنالواجب أيام أخر ولكن لو صام رمضان صحّ، وكان معجلا للواجب كمن قدم الزكاة على الحول وهو فاسد، لأن الآية لا تفهم إلا الرخصة في التأخير وتوسيع الوقت عليه،والمؤدي في أول الوقت الموسع غير معجل، بل هو مؤدّ في وقته(8).

الإفادة السادسة: مناقشة الأصوليين والمتكلمين

لا يكاد يوجد مبحث أو فصل أو مطلب في كتابه "المستصفى"من دون أن يتعرض فيه لعلماء الكلام أو الأصول أو الشريعة المخالفين لاختياراتهالأصولية، وكتابه مشحون بمناقشة هؤلاء مع نقل آرائهم والردّ عليها، وعلى رأسهمأيمة المذاهب الفقهية وأصحابهم كمالك وأبي حنيفة وكذلك مناقشة المتكلمين منالمعتزلة في مسائل عديدة منها:

-----------------------------------------------
1-  الانفطار: 13-14
2-  المستصفى 2/190
3-  الاسراء:23
4-  المستصفى: 2/190-191
5-  المستصفى: 2/191
6-  البقرة: 183 – 184
7-   البقرة: 59
8-  المستصفى: 1-97
-----------------------------------------------

-     أن الحكم الشرعي هو عبارة عن خطاب الشرع وليس وصفا للفعل(كما تدعي المعتزلة) ولذلك إذا لم يرد الشرع فإنه لا يتميز فعل عن غيره لا بالموافقة ولا بالمخالفة ويختلف ذلك بالإضافات ولا يكون صفة للذّات.
-     وأن التحسين والتقبيح شرعيّان، ولا مدخل للعقل فيه.
-     وأنه لا حكم قبل ورود الشرع.
فهذه ثلاث مسائل اختلف فيها السّنة مع المعتزلة، وانضم الشيعة إلى أهل الاعتزال في هذه القضايا، كما انضمّوا إليهم في نفي القياس.
كما ناقش الأصوليين والمتكلمين في أعقد وأشيك مسألة أصولية وهي مسألة التعبد بخبر الواحد عقلا. فقال: إنه لا يستحيل التعبد بخبرالواحد عقلا على خلاف القدرية وأنه لا يجب التعبّد به عقلا على خلاف الظاهرية وأنالتعبد به واقع سمعا وهو ما عليه جماهير من سلف الصحابة والتابعين والفقهاء والمتكلمين(1) معتمدا في ذلك الأدلة والشواهد ومختلف الوقائع عن الصحابة والتابعين.
أما مناقشة الفقهاء فتظهر جلية في ردّه على مالك لقوله "بالمصالح".
ففي المبحث الذي عقده لبيان الأصول الموهومة، وهي ما يظنأنه من أصول الأدلة وليس منها وهي أربعة: شرع من قبلنا، وقول الصحابي والاستحسان والاستصلاح يناقش مالكا في أخذه بمبدإ الاستصلاح ويمهد لذلك بالكشف عن معنى المصلحة وأقسامها وهي ثلاثة قسم شهد الشرع لاعتبارها، وقسم شهد لبطلانها وقسم لميشهد الشرع لا لبطلانها ولا لاعتبارها.
ثم يعرض لمسألة الضرب بالتهمة للاستنطاق بالسرقة قال بهامالك ورآها مصلحة. قال أبو حامد: ولا نقول به لا لإبطال النظر إلى جنس المصلحة،لكن لأن هذه المصلحة تعارضها أخرى وهي مصلحة المضروب(2) لأنه ربما يكون بريئا منالذنب، وترك الضّرب في مذنب أهون من ضرب بريء ، فإن كان فيه فتح باب يعسر معه انتزاع الأموال ففي الضرب فتح باب إلى تعذيب البريء، واقترح تخليد الحبس عليه لكفّشره، وأنه لا يكفي الظن الغالب لإقامة هذه العقوبات، وإنما نجوّز ذلك عند القطع أوظن قريب من القطع، والظن القريب من القطع إذا صار كليا وعظم الخطر فيه فتحتقرالأشخاص الجزئية بالإضافة إليه، فإن قيل إن في توقفنا عن السّاعي في الأرض بالفساد ضررا كليا بتعريض أموال المسلمين ودمائهم للهلاك وغلب ذلك على الظن بما عرف منطبيعته وعادته المجربة طول عمره قلنا لا يبعد أن يؤدي اجتهاد مجتهد إلى قتله إذ كان كذلك، ثم ذكر مسائل مال فيها إلى المصلحة مثال ذلك (حد الشارب) وعقب عليهابأنها من قبيل التعزيرات، والتعزيرات مفوضة إلى رأي الأيمة، فكأنه ثبت بالإجماع أنهم أمروا بمراعاة المصلحة، ثم ذكر مسألة المرأة التي فقدت زوجها، والأحكام المتعلقة بها، وقد مال في أكثر هذه المسائل إلى القول بالمصالح مع أنه أورد هـــذاالأصـــل في

-----------------------------------------------
1-  المستصفى: 1/148
2-  المستصفى: 1/297-298
 -----------------------------------------------

جملة الأصول الموهومة وكان الأولى به أن يلحقالمصلحة بالأصول الصحيحة لتصير أصلا خامسا بعد الكتاب والسنة والإجماع والعقل،ولكنّه خطّأ من ظنّ أنه أصل خامس ودعواه أنه ردّ المصلحة إلى حفظ مقاصد الشرع ومقاصد الشرع تعرف بالكتاب والسنةوالإجماع فكل مصلحة لا ترجع إلى حفظ مقصود فهم من الكتاب والسنة والإجماع، وكانتمن المصالح الغريبة التي لا تلائم تصرفات الشرع فهي باطلة مطروحة ومن صار إليهافقد شرّع2
فبهذه الشروط التي ذكرناها ( أن تثبت المصلحة قطعا أوبظن قريب من القطع و لم يرد نص على خلافها) يجوز اتباع المصالح. فتبيّن أنالاستصلاح ليس أصلا خامسا برأسه، بل من استصلح فقد شرع كما أن من استحسن فقد شرّعوتبين به أن الاستصلاح على ما ذكرنا3.

خلاصة الإفادة:

إن مباحث الأصول التي تناولها في كتابه هي نفسها التي تناولها الأصوليون فيكتبهم لا تخرج عما تقرر عند جمهورهم من مسائل الأقطاب الأربعة، وهي قطب الأحكامالشرعية، وقطب الأدلة الشرعية، وقطب الاستدلال وقطب المستدل أو المجتهد، واختلفمعهم في النواحي التالية:

·     إعطاء مساحة أوسع للعقل في الاستدلال، وفي جعلهمُحكما، واجب الوجود في مسائل الشريعة، وفي اعتبار شرف العلوم وفضلها بامتزاجالعقل بها وفي أن دليل العقل أقوى من دلالة الصيغة اللفظية وفي اعتبار دلالة العقلعلى نفي الحكم عند انتفاء السمع.
·     التأكيد على فضل علوم الفقه وأصوله لأنه علم مُركّبمن السمع والعقل وتقديم هذا العلم على سائر علوم الشريعة بسبب هذا الامتزاج.
·     وضوح المنهج التدريسي القائم على تقرير المسائلبالتذكير بها والعود في مخاوضتها ومراجعتها، وذلك قصد ترسيخ هذه العلوم الصعبة فيأذهان الطلبة، إذ المستنتج أن "المستصفى" كتاب مدرسي كتب لطلبة العلم.
·     محاولة تعديل الكتابة في أصول الفقه، بعدم الخوضفي المسائل التي لا تتصل بهذا العلم والتي لا يجنى منها كبير فائدة، كما وقعللمتكلمين والفقهاء واللغويين من حشر مسائل من علومهم لا تتصل بأصول الفقه.
·    في مسألة المصطلحات، التأكيد على أن العبرة في المباحث الأصولية تستخلص منالمعاني لا من المباني، وهذا نزوع من الغزالي إلى مناصرة التوجه المصلحي فيالشريعة من دون إطلاق القول به كما هو الحال عند المالكية والحنابلة، ولكنه كانأكثر تفتّحا واستعدادا لقبول المصالح من سائر الشافعية المتقدمين عنه ومنهم شيخه أبوالمعالي الجويني، ونجد هذا المنحى في التوجه نحو المصالح حاضرا في أحد أعلامالمذهب الشافعي فيما بعد وهو العز بن عبد السلام المصري، وبذلك يعتبر الغزالي منأوائل الشافعية البادئين بنصرة المذهب الآخذ بالمصالح في الفقه الإسلامي وليأخذالمذهب الشافعي بعده المسلك المرن في قبول المصالح الراجعة إلى الأصول الثابتةوالمعاني المعتبرة.

-----------------------------------------------
1-  المستصفى: 1/306
2-  المستصفى: 1/311
-----------------------------------------------



بقلم: الدكتــــــور هشام قريسة

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire