samedi 10 décembre 2011
15:51

الزيتونة منارة المغرب الإسلامي



بسم الله الرحمان الرحيم

لم يكن لمؤسسة علمية في بلدنا وحتى في المغرب العربي ما للجامعة الزيتونية من العراقة والأصالة التاريخية والمجد التليد المتواصل والنفع العميم للأفراد والجماعات في مختلف بلداننا، وما لهذه المنارة العلمية المتصلة حلقة، حلقة بسلف الأمة الصالح من الصحابة والتابعين الذين عمّروا هذه البلاد ونشروا فيها تعاليم الدين الحنيف، وبثوا فيها علما صافيا لا كدر فيه ولا تشوبه شوائب البدع والضّلالات والانحرافات في العقيدة والسلوك التي أصابت أمصارا كثيرة في المشرق الإسلامي وعمّرت فيه من مذاهب "القدريّة" و "الجبرية" و "الروافض" (الشيعة) و "النواصب" (الخوارج) ومن "الباطنية" (وهي فرقة تبطن الكفر وتظهر الإيمان) و "الزنادقة" ووافق أن بثّ الفاتحون من السلف الصالح في هذه البلاد (التي كانت تسمى إفريقية) نمطا إسلاميا حنيفا، رفيعا، سويا، قائما على علم المدينة، قراءة وسنة وعقيدة وفقها. لم يختلط بشيء من مذاهب المشرقيّين السّالف ذكرها، ولم يختلط بعقيدة غنوصية (فكرة شرقية باطنية) ولا ديانة برهمية (وهي ديانة مجوسية هندية) ولا فلسفة إشراقية أو مشائية (نسبة إلى أرسطو) بل بثوا علما قائما على نقل صحيح ونظر حصيف وفطرة سليمة، فيه الأصول المحكمة والفروع النافعة القائمة على المصلحة ومراعاة أحوال المكلّفين، وكان الفاتحون الأوائل قد بنوا جامع الزيتونة في مطلع القرن الثاني بعد أن بنوا مدينة القيروان وجامعها المعمور في منتصف القرن الأول، إذًا هما منارتان ساطعتان متلألئتان أضاءتا المغرب الإسلامي زمنا طويلا تخرّج منهما النجباء والأعلام في مختلف العلوم، النقلية والعقلية على السواء، حقيق بنا أن نصونهما صيانة إشعاع وتعمير وإضاءة بالعلم وطلبته، لا صيانة آثار وحجارة وتزويق كما يفعل الناس. فإن الأمة التي لها تاريخ وحضارة هي الأمة ذات الأصول الثابتة والفروع الباسقة. وإنه لتوافق سعيد أن تكون القيروان بدأت والزيتونة واصلت ولا يزال لها هذا الاعتبار التاريخي والعلمي رغم انتقاص طائفة من أهل الفكر والثقافة في بلدنا لها ممّن لم يتغذوا بلبانها ولم يعرفوا وصلها وحنانها وإنما شبوا في أحضان جامعات أخرى قطعت كل وصل وعقت عن كل برّ، فالواجب في حقنا أن نصفح وننصح لا أن ننفر ونقطع.

وإنه كمثال معبّر يدل على أثر الزيتونة العظيم في خلق جو من الوئام السياسي بيننا وبين إخواننا من الجزائر أساسا، لأنهم إخوة "بالجنب" وقد أوصانا سبحانه وتعالى "بالصاحب بالجنب" فما بالك "بالأخ بالجنب" ولا يخفي ما يكون بين المتجانبين في الأوطان والمنازل من نشوء المشاكل المتعلقة بالجوار، ذلك أنّه لما وقع الإعلان عن استقلال البلدين، كان لا بد أن يقع بينهما ما وقع بين سائر الدّول التي كانت محتلّة من الخلافات على رسم الحدود التي تركها المحتل الظّالم  حنقا و نقمة، وقد تطورت هذه الخلافات بين كثير من هذه البلدان المتجاورة إلى صراعات دامية ومستمرة إلى اليوم. ولكن صادف أن إخواننا في الجزائر الذين كانوا على رأس السلطة السياسية والحزبية كانت لهم أواصر مودة وتراحم معنا، زمن الكفاح المشترك ضدّ المحتل، وكان كثير منهم قد تعلموا في جامع الزيتونة، تعلموا العلم والوطنية والغيرة على مقوّمات هذه الأمة الجامعة، وتعلّموا فيه الإخلاص والصدق والإيثار، ممّا جعل الخلافات الحدودية تحل بيسر وتتجنب بلداننا صراعا مريرا كاد أن يحدث.

فلو لم يكن للزيتونة في العصر الحديث إلا هذا الدور فقط في إخماد نار الفتنة بين الإخوة لكفاها فضلا ولكفاها خيرا فكيف والحال أنّه تخرج منها المدرّسون والقضاة والمحامون والإداريون والموظفون والساسة من كلا البلدين وكان لهؤلاء جميعا أواصر قربى ووفاء وعهد.

فأقول لكل من له قدم صدق في هذا البلد، ولكل من له قول نافذ، ويد طولى في المنافحة والنصرة، وله قلب غيور أن يسعوا إلى تفعيل هذه المؤسسة العلمية وإعادة إضاءة هذه المنارة وتمكينها من القيام بدورها التاريخي العلمي الذي كانت تقوم به لأنها العلامة البارزة في حضارتنا وحتى يبقى لنا هذا العلم المؤصل وهذا الدين الوسط القائم على السماحة والرحمة واليسر وقد قال عليه الصلاة والسلام "بعثت بالحنيفية السمحة" وقال أيضا " إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق". إن السماحة والاعتراف  بالآخر، ونفي الإكراه يمر بطريق العلم، والعلم إنما ينبع من مؤسساته، ويؤخذ عن أهله، ويحصّل من منابعه، والزيتونة مَعينُ العلم الشرعي الذي لا ينضب، ولا يكدّر فمن رأى للزيتونة بدلا وبغى عنها حولا فقد سلك طريقا مضلاّ.
  

 

بقلم : الدكتــــــور هشام قريسة
Article plus récent
السابق
هذا آخر موضوع.

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire