بسم الله الرحمان الرحيم
لا
شك أن الجامعة الزيتونية كمؤسسة علمية تدرّس العلوم الشرعية وما يتصل بهذه
العلوم من الروافد المعرفية الأخرى كاللغة والتاريخ والأدب والمنطق، نشأت
منذ زمن بعيد أي منذ الفتح الإسلامي، فكانت هذه المؤسسة التونسية العربية
الإسلامية وإن شئت الإفريقية موغلة في التاريخ والحضارة حينها كانت تونس
تسمى "إفريقية" بل لعلّ تسمية القارة الإفريقية تأسست من بلادنا التي هي
إفريقية، فلما دخل الإسلام هذه البلاد وجد جماعات البربر وهم السكان
الأصليون يسكنون الكهوف والبوادي والحصون النائية، ووجد الرّوم وأحلافهم من
بلاد الغال (فرنسا) واليونان وبروسيا (ألمانيا) يسكنون المدن والثغور
الواقعة على البحر، بحيث تقوم العلاقات بين هذه الطوائف على أساس المصالح
الاقتصادية فقط، مع غياب النسيج الاجتماعي والترابط العرقي والامتزاج
الثقافي بينها، ولما فتح الإسلام إفريقية كان مشروعه الحضاري الذي جاء
لتحقيقه يقوم على بناء دولة تتأسس فيها المصالح المشتركة والعلاقات
الاجتماعية المتبادلة ونظم الحياة المؤسسة للمجتمع المترابط، المتكافل،
القائم على نبذ العصبية والعنصرية وعلى نشر المعرفة في مختلف أرجاء البلاد
المفتوحة، فكان بناء جامع الزيتونة المعمور بمدينة تونس (بعد بناء جامع
القيروان) استجابة لمقصدين.
الأول: تأسيس مكان ٍللعبادة
والثاني: توفير مَعْلَمِ ثقافي علمي، تدرس فيه العلوم المختلفة
كان
ذلك في مطلع القرن الثاني للهجرة أي سنة 114 للهجرة في عهد عبيد الله بن
الحبحاب، وهناك روايات تقول إن بدايات تأسيس "جامع الزيتونة" كان سنة 70
للهجرة (أي في القرن الأول الهجري) في عهد حسان بن النعمان الذي أجرى البحر
من رادس اثنى عشر ميلا ووصله بقرطاجنّة وبنى على طرف منها دارا لصناعة
السّفن وأمر بجلب الأخشاب من الغابات، ممّا يُعد في ذلك الزّمان من
المشاريع العجيبة التي يمارسها فاتحٌ غازٍ لم يأت لنهب الأموال وغصب النساء
وابتزاز الخيرات بل لتعمير الأرض وبناء الحضارة القائمة على الإسلام
وتأسيس رباط اجتماعي قوي تمتزج فيه الأعراق والأجناس والطوائف على أساس من
التعايش السلمي والتعاقد الاجتماعي المنظم للحقوق والواجبات، وقد مثّل جامع
الزيتونة معلما ثقافيا ودينيا فريدا من نوعه في الغرب الإسلامي في ذلك
العصر وبعده وكان بدوره الأساس في قيام جامعات إسلامية بارزة وذائعة الصيت
كجامع القرويين بمدينة "فاس" بالمغرب الأقصى وجامع الأزهر بمدينة "القاهرة"
بمصر فكلاهما من المعالم الدينية التي تدل علينا، ومشرقات تاريخنا قد
رواها.
يقول والدي الشيخ رحمه الله في قصيدة وطنية طويلة ممجدا لتونس :
أنجــبت جوهرا فقاد جيوشا فتحت مصر دون سفك دماها
عقـــب النـــّصر شاد قاهرة فيها استوى أزهرٌ يُنير دجاها
تلك آثـــارنــــــا تدلّ علينا مشرقات تاريخنا قد رواهــا
فجوهر الصقلي خرج من تونس في العهد العبيدي، فذهب إلى مصر ليشيد القاهرة ويبني "جامع الأزهر"
وكان
الطلبة يأتون "الزيتونة" من مختلف بلاد الشمال الإفريقي لينهلوا من علومها
وآدابها، واستمر عطاؤها بلا انقطاع حتى في زمن الاحتلال الفرنسي في المجال
العلمي والسياسي ثم مثلت الزيتونة موردا بشريا هاما عند الاستقلال، وراهن
السياسيون القائمون على الدولة التونسية المستقلة على خرّيجيها ليسدّوا
فراغات الدولة الفتيّة ووظائفها الكثيرة في ميادين التعليم والقضاء
والمحاماة والإدارة وعدول الإشهاد وسائر سلك الحرس الوطني وحتى في الوزارات
والمصالح المتصلة بها، إضافة إلى ما كان يقوم به علماء الزيتونة من توعية
دينية واجتماعية راقية، ومن حلّ لمشكلات كثيرة تقع في أوساط مختلفة من
المجتمع بما لا يمكن لمؤسسة منفردة أن تقوم به إلاّ أن تتعاضد مؤسسات علمية
كثيرة على تحقيقه. وإذا كان الفرنسيّون جميعا يفتخرون أنّ لهم مؤسسة علمية
مشهودًا لها بالعراقة والمجد وهي "جامعة الصربون" وإذا كان الأنقليز
يفتخرون بجامعة "أكسفورد" على أنها سمة العراقة البريطانية الضاربة في
التاريخ فإن هذين المعلمين في الغرب المسيحي لم يحققا من الامتداد التاريخي
والبعد الحضاري والإنتاج المعرفي والتمويل البشري الوظيفي ما حققته جامعة
الزيتونة ورغم ذلك تُنُوسيَتْ هذه الشجرة المباركة الوارفة أغصانها،
الكثيرة ثمارها، ولم تحظ بالعناية المطلوبة، بل أكثر من ذلك سُعيَ بها إلى
الغلق بمحاولة طمس معالمها، وتقزيمها وتهميش دورها، والتضييق على شيوخها
وأساتذتها على امتداد خمسين سنة (1960 – 2010) من حياة هذه الدولة الفتية
التي قامت على كفاءاتها، وكان أشد عليها أن انقطعت حلقات السند العلمي فيها
ممّا أنتج فراغا هائلا في مجال العلوم الشرعية، وحصل لنا ما يشبه الإنبتات
عن حضارتنا الإسلامية، وتَنَاقص عدد المتخرجين بالإجازات الشرعية، بسبب
قلة المتوجهين إلى الدراسة فيها، وبسبب عدم خلق الوظائف التدريسية
والتربوية وحرصت الإدارات والوزارات المتعاقبة على تكليف معلمين وموظفين من
مختلف القطاعات على القيام بدور الإمامة والتدريس والوعظ بالمساجد
والمنتديات وترك المتخرجين من الزيتونة، فآل الأمر إلى اختلاف الأقوال
وتعارض الأفكار وإلى حصول التهارج في المساجد، ووقوع الخصومات والتنابز،
وتنقل الناس من إمام إلى آخر لعلهم يجدون بغيتهم من الفقه فلم يظفروا
بطائل، لزهادة أكثر الأيمة بل خرج الكثير منهم بالبدع والضلالات، وقلة
الصواب وإنه لمن أوكد مطالب هذه الأمة تحصيل العلم الشرعي، تحصيلٌ لا ينقص
أهمية عن تحصيل ضروريات العيش من مأكلٍ ومشربٍ وملبسٍ ومركبٍ ومسكنٍ
ودواءٍ، فكلاهما ضروري، العلم ضروري للروح، والغذاء والمنافع المادية
ضرورية للجسد.
ولا بدّ من
إعادة اعتبار الصفة الأصلية لمجتمعها وهي الصفة العربية الإسلامية حتى
نشعر بانتسابنا إلى هذه الأمة العظيمة ولا نبقى معلّقين منبتّين عن حضارتنا
وتاريخنا وآدابنا وأن تكون لنا صفة إنسانية نعتز بها، كما يعتز الأوربي أو
الأمريكي بحضارته وتاريخه ومعالمه ومسيحيته، وأن نسترجع ما فقدناه من
آدابنا ومكانتنا بين شعوب العالم فإن ما خسرناه من هذه التعاليم الإسلامية
أعظم بكثير من هذه المنافع الدنيوية والإسلام مع ذلك قد علّمنا أن لا نفرط
في شيء لنا فيه فائدة شرعية فحفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال من
أعظم مصالح الشريعة ومن أوكد مطالبها، ومن أفضل ما يستشهد في سبيله ففي
حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "مَنْ قتل دون ماله فهو شهيد" أي قتل
دفاعا عن ماله أن يفتكّ أو يغتصب فهو شهيد، رواه الإمام الترمذي عن كثير من
الصحابة منهم علي بن أبي طالب وجابر بن عبد الله وابن عمر وغيرهم وعلق
عليه بقوله "رخّص بعض أهل العلم للرّجل أن يقاتل عن نفسه وفي حديث سعيد بن
زيد قال سمعت رسول الله (ص) يقول : " من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل
دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد"
وهذا أيضا حديث حسن صحيح رواه غير واحد عن أصحاب رسول الله (ص). ومعناه أن
كلّ من قتل دفاعا عن نفسه وعن دينه وعن بلده وأهله وناسه في مواجهة أهل
الظلم والعدوان وفي مواجهة المغتصبين وقطاع الطرق فهو شهيد وإنه من أوكد
المطالب والواجبات على شعبنا الأبيّ - الذي اكتنفه الله برعايته وفضله،
فبعونه سهّل خروج الظلمة وأخزى اللئام النّاهشين في أموال الأرامل والأيتام
والمستضعفين وقطع ألسنة الكذبة والدجالين المتاجرين بالأعراض والمبادئ،
المسوّفين للأمة، المانعين الخير عنها- أن لا يفرّطوا في هذا النصر العظيم
الذي مكن فيه الله للمستضعفين استرجاع عزّتهم وكرامتهم وأموالهم وأن يعضّوا
على هذا التمكين بالنواجذ، وأن يبقوا يقظين حتى لا تسلب منهم حريتهم من
جديد، فإنه لا مواطنة ولا كرامة إلا بالحرية، ولا حرّية معتبرة إلا بالخلق
الحسن.
بقلم: الدكتــــــور هشام قريسة
بقلم: الدكتــــــور هشام قريسة

0 commentaires:
Enregistrer un commentaire