mardi 27 décembre 2011
10:07

المباهلة أو الدعوة الممقوتة



بسم الله الرحمان الرحيم

تتنادى أصوات في المشرق الإسلامي بالدعوة إلى المباهلة بين السنة والشيعة وهي أن يجتمع قوم من هؤلاء وقوم من هؤلاء فيبتهلون إلى الله، كل على حدة، ويجعلون لعنة الله على الكاذب أو الظالم منهما، وسبب هذا الابتهال مسألة الإمامة من أولى بها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهل أن النبي وصّى بالخلافة بعده لأحد أم لا؟ فتخرّق الشيعة دعوى أن الإمامة لعلي ولبنيه من بعده من فاطمة رضي الله عنهم جميعا وصيّة من النبي صلى الله عليه وسلم لهم لا يحق أن ينافسهم أحد في الأمر، وقال
جمهور أهل الإسلام من السنة وغيرهم، لم يستخلف النبي صلى الله عليه وسلم أحدا، ولم يوص بالخلافة لأحد، وإنما ترك الأمر شورى، يختارون من يرضونه علما وحزما وخلقا، وقد أطبق على عدم الاستخلاف جميع الصحابة بمن فيهم عليّ رضي الله عنه، وإنما مال بعض الصحابة إلى عليّ، ورأوه صالحا للخلافة، ميل محبة للنبي صلى الله عليه وسلم ولآله، لا ميل أحقية أو التزام بوصية، أي أنهم مالوا إلى علي اختيارا له تماشيا مع مبدإ الشورى في الخلافة، فإنه لم يتكلم أحد في مسألة التوارث في الحكم، إلا بعد خلافة معاوية الذي جعل الأمر ملكا بعد أن كان خلافة بدءا من سنة ستين للهجرة.

وترتب عن هذا الخلاف السياسي العميق الذي استغرق تاريخ المسلمين وأنهك قواهم وشتّت جهدهم تجاورٌ مقيتٌ وتنابز وشغبٌ دائم لا ينقطع وتباغض ينفخ في كيره الشيطان، ولم يكن أهل السنة و الجماعة هم الذين وقفوا في وجوه الشيعة في بادئ الأمر بالتّلاحن و السّباب و بالقتال و إنما  هم الأمويّون ، الذين يمثلون التكتل السياسي الماسك بزمام السلطة  التنفيذية، فجمهور المسلمين بعد عصر الخلفاء الراشدين ، لم يكن لهم اعتراض على الصحابة من يختارون  للخلافة، و من أجدر بتولّي أمرهم ، فقد أقرّوا و رضوا ما اختاره الصحابة ، لأنهم يدركون أنهم أخيار الأمة وقد أحسنوا صنعا فيما فعلوه، وأنه من الدين أن يسلموا بما سلّم به الصحابة، وأن يرضوا بمن توافقوا عليه إماما، بل الواجب على الخلف أن يرتبوا الخلفاء الراشدين في الفضل كما رتبهم الصحابة في الإمامة على درجات من التفاوت وفي جميعهم خير لا ينكره إلا جاحد، وتطور الخلاف السياسي في أحقية الإمامة بين الشيعة والأمويين إلى خلاف مذهبي تجذّر بجملة من الأحاديث النبوية، وأساسا بجملة من التأويلات البعيدة لهذه النصوص وبما أن هذا الصدام السياسي لم يكن متكافئا، لأن الذي يعارض ليس كالذي يحكم، مما أدّى إلى تقهقر القوة المعارضة المتمثلة في الشيعة، وضعف نفوذهم في أوساط المسلمين الذين لم يكن لهم تجاوب مع أي من الطائفتين لأن الغرض من الصراع لم يكن دينيا وإنما كان سياسيا، فكل منهما يطلب الأمر لنفسه، مع أن هذا الأمر جعله الله للمسلمين ليقام على الشورى والاختيار، ثم كان للشيعة في مرحلة لاحقة، ولكي يعطوا مشروعية لدعواهم في أن الإمامة لا تكون إلا في أهل البيت من ذرية فاطمة رضي الله عنها أن يتجاسروا على الصحابة باتهامهم بتحويل الخلافة لأبي بكر ثم لعمر ثم لعثمان قبل أن تؤول إلى علي رضي الله عنهم جميعا وأنهم في نظرهم خانوا العهد في عدم التسليم لعلي بادئ الأمر، وأنهم ضيّعوا أمانتهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، المهاجرون والأنصار على السواء. ثم ساقوا في عدائهم، مَنْ اختلف مع علي في خلافته، طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم جميعا فلما جرّحوا في هؤلاء وفيمن رضي بإمامتهم وعدالتهم وسخطوا على أصحاب رسول الله جميعا واتهموهم ولعنوهم وركبوا كل فتنة وشقوا عصا الجماعة، انبرى لهم أهل السنة في الرد عليهم والضّرب على أيديهم، ولم يجدوا من سبيل إلا التقية، وإخفاء دعوتهم، وكانوا كلما تمكنوا من إظهارها، أظهروها، وبقي أمرهم بين مدّ وجزر يتواثبون حينا وينكمشون حينا آخر حتى تجرّؤوا في هذا الزمان، على إظهار العداء، والصّدع باللعن ونشر عقائدهم الباطلة. وصادف ذلك ضعف المنهج السنّي وتخلّي رجاله أو عجزهم عن القيام بالواجب الديني لأسباب يطول ذكرها والتجأ الدعاة منهم المتحمسون لنصرة الصحابة إلى دعوتهم إلى المباهلة. فماهي هذه المباهلة التي نسمع عنها في القنوات الفضائية وفي التلفزات العربية؟ وماهي مناسبة نزولها في القرآن؟

أوّلا: معنى المباهلة
المباهلة هي الملاعنة من باهل القوم بعضهم بعضا، وتباهلوا وابتهلوا: تلاعنوا، والبهل هو اللعن، ومعنى المباهلة: أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء، فيقولوا: لعنة الله على الظالم منّا، وابتهل في الدعاء إذا اجتهد، والابتهال الاجتهاد في الدعاء وإخلاصه لله عز وجل ( لسان العرب 11/72). وقد استعمل العرب كلمة الابتهال للدلالة على الدعاء، والدعاء قد يكون تسبيحا وقد يكون لعنا، ولذلك نقول دعا ربّه، أي تضرّع له وسبّحه، ودعا عليه أي لعنه، ودعا له أي طلب الخير له، وهذه كلها تسمى ابتهالا أرفعها التسبيح، ودونه الدعاء بالخير للخلق، وأحطها منزلة لعنُ الناس والدعاءُ عليهم بالثبور والهلاك، ولا يخفى انحطاط هذه المنزلة الأخيرة في الدين الذي وصفه رب العزة سبحانه وتعالى بأنه دين الإسلام والسّلام ودين السّلم والسَّلم. إلا ما كان من لعن إبليس فإنه عبادة لا يفوقها إلا تسبيح رب العالمين، فإبليس رأسُ الكفر وصورته الحقيقية وأتباعه المخذولون صوره المطابقة.

ثانيا:
ورد لفظ الابتهال أو المباهلة في كتاب الله تعالى في قوله "  إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ  فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ" آل عمران 59-61.
ومناسبة نزول هذه الآية أن وفدا من نصارى اليمن من أهل نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وحاجّوا النبي في مسائل من العقيدة منها ما يتعلق بعيسى بن مريم عليه السلام وبنبوّته وأصرّوا على ألوهيته، والنبي صلى الله عليه وسلم يُبيّنُ لهم أنه بشر، أرسله الله إلى بني إسرائيل هاديا ومبشّرا ونذيرا، وأن الله وحده هو المتفرد بالألوهية، المنزّه عن الشريك وعن الصاحبة والولد، فأصرّوا على ما يدّعونه، بهتانا ومكابرة، فأمر الله نبيه بمباهلتهم بأن يجمع كل فريق من الطرفين المتجادلين، المتخاصمين نساءهم وأبناءهم وأنفسهم، ثم يتضرعون إلى الله، فيجعلون لعنة الله على الكاذبين، واللعنة هي الطرد من رحمة الله، وكان الغرض من المباهلة إلجاء النصارى إلى الاعتراف بالحق أو الكف عمّا يدعونه من ألوهية عيسى عليه السلام، وقد رَوَى المفسرون وأهل السّير أن وفد نجران لما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملاعنة قال لهم العاقب ( وهو أميرهم وصاحب مشورتهم) نُلاعنه، فو الله لئن كان نبيا فلاعننا لا نفلح أبدا ولا عقبنا من بعدنا، فلم يجيبوا إلى المباهلة وعدلوا إلى المصالحة، ولذلك فإن هذه الملاعنة لم تقع. لأن نصارى نجران كانوا أحكم من أن يستجيبوا إلى مباهلة فيها خسرانهم وهلاكهم، وقد روى البيهقي " في دلائل النبوة" أن النبيّ صلى الله عليه وسلم هيأ عليّا وفاطمة وحسنا وحسينا ليصحبهم إلى المباهلة ولم تذكر الرواية أنه أحضر نساءه أو أحدا من المسلمين (ابن عاشور، التحرير والتنوير: 3/266) وفي الخبر أيضا أن أحد أساقفتهم وهو شرحبيل بن وداعة، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إني قد رأيت خيرا من ملاعنتك، فقال له النبي: وما هو؟ قال حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح فمهما حكمت فهو جائز (أي نَقْبَلُهُ) فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ملاعنتهم، حتى إذا كان الغد أتوه فكتب لهم كتابا وفرض عليهم الجزية، فكان أهل نجران أول من أدى الجزية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك في سنة تسع للهجرة. (تفسير ابن كثير: ).1/483

ثالثا:
نأتي الآن إلى مقصود هذا المقال ولبه وهو ما يقع هذه الأيام من البهل والمباهلة واللعن والملاعنة، فالبُهل: هو اللعن من قبل واحد، والمباهلة: هي التلاعن من قبل اثنين فأكثر، وتعني المشاركة والمنافسة في اللعن، ولم يكن هذا مما رغّب الله تعالى التنافس فيه، واللّعنُ في زمان الأشرار أو الحثالة هو الغالب في ابتهالات الناس وأدعيتهم، وهو قصارى ما يقدمونه من صالحاتهم، وأبشع ما تكون المباهلة حين تكون بين الطوائف المنتسبة للإسلام، وقد نبّه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن اللّعن سيكون من أشراط الساعة، فقد ورد في الأخبار الصحاح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام مما أطلعه الله عليه، مما سيقع في خواتيم الزمان، من رفع العلم (الشرعي) وظهور الجهل وفشوّ الفاحشة وانقطاع الأمانة وكثرة الهرج والمرج وأن يلعن آخر هذه الأمة أوّلها، فانتبه أرشدك الله إلى الهداية والتوفيق إلى هذه العلامة الأخيرة من علامات الساعة وهي "اللعن". ويكون من الآخرين للأولين، حين يصدر ذلك من الأمة المنتسبة إلى الإسلام، أن تقبّح سلفها وتسب أصلها وتتفصّى ممن تقدمها، وحينما ينسب خلف الأمة أسلافهم إلى الضلالة والكفر وحينما يعقون عقوقا عظيما، يأذن الله بمقدمات الساعة التي هي أشراطها، ويكون اللعن هو آخر ما يتصل بقيامها، يدل على ذلك الروايات التي رويت عن علي بن أبي طالب وأبي هريرة رضي الله عنهما وأنه حينما يقع آخر أشراطها وهو اللعن قال النبي صلى الله عليه وسلم فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وزلزلة وخسفًا ومسخًا وقذفًا وآيات تتابع كنظام بال قطع سلكه فتتابع (صحيح الترمذي، كتاب الفتن، باب 3، حديث2215- 2216)، أي تتتابع الآيات المؤذنة بانفراط نظام الكون كانفراط عقد قطع سلكه أو خيطه.

وقد يقال لعن الخلف للسلف معلوم، واقع في الأمة من زمان ليس بقريب، فلا يزال طوائف من الشيعة يلعنون الصحابة وأفاضل الأمة، ولم يكن ذلك إيذانا باقتراب الساعة، وجوابه أن ذلك لم يكن معلنا وإنما يفعل الشيعة ذلك في خواصّ مجالسهم وخفايا بيوتهم يمنعهم من الإظهار خوفهم من سلطان الخلفاء وسلطان الشريعة التي كانت قائمة على المنهج السنيّ النبوي، فلما ذهب سلطان الخلافة وضعف سلطان الشريعة في الأمة تواثبت الفرق الضّالة إلى الظهور بعد أن كانت كامنة وكشرت عن أنياب الحقد والكراهية وصدعت بمنكرات العقائد والبدع وتطاولت على السلف باللعن والتجريح والقدح في أماناتهم، وكان أهل السنة وهم أكثر الملة رعاةً للدين والقائمين على توجيهه وإرشاده، الحاملين الأمة على آدابه المفسرين لتعاليمه، قد تراجع دورهم وانحسرت مهمتهم وأهملوا ما كانوا يقومون به من دور عظيم في تصحيح العقيدة وإبطال الآراء الضّالة فلما طوقتهم الأقوال الممقوتة التي صدع بها المنحرفون من الشّيعة و من المارقين من الدين تنادوا إلى الملاعنة ولن تغني عنهم شيئا وقالوا لمن ضلّ وخرج عن الجادّة وأوغل في الإفك. تعالوا نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين، تعالوا نتلاعن فندع على الكاذب منا. والعجب من هذه المباهلة أن الله أرادها أن تكون مع أهل الملل الأخرى، مع النّصارى واليهود، ليكفوا عن قول ما ليس بصحيح في حق الرسل والأنبياء، فامتنعوا منها وخافوا من عواقبها، وإذا بالمسلمين يتلاعنون فيما بينهم، ويتنافسون في الدعوة إلى ذلك.

ولذلك ما كان يجوز أن يتم هذا بين المسلمين، وما كان يصح الاستدلال بالآية على مشروعية التلاعن، وما كان لأهل العلم والفضل من المسلمين المقتدين بسلف الأمة الصالح، المنتهجين نهج الشريعة السمحة والسنة المباركة، أن يُتَابعوا الشيعة في عوائد اللعن فإنهم من كثرة ما لعنوا، أصبحوا لا يبالون بما هم فيه من قبيح الأخلاق، تعوّدوا على الثلب والبهتان، ليس لهم من شرف يخافون عليه، ولذلك فإنهم إذا ما دُعوا إلى ما يناسب أحوالهم في المباهلة جاؤوا سراعا للتلبية.

إن المباهلة عيّنة في حالة خاصة قُصد بها إلجاء الخصم للاعتراف بالحق والتسليم له، وكانت مع النصارى ولم يكن فيها سب لعيسى عليه السلام أو انتقاص من قدره ولم يقصد بها أن تؤسس كمنهج في التعامل بين المختلفين من أهل الإسلام، ولذلك فهي ليست من آداب الإسلام وقيمه، بل عكس ذلك هو المطلوب شرعا قال تعالى يصف عباده الصالحين : " وعباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما" الفرقان63 قال العلامة محمد الطاهر ابن عاشور: " والسلام يجوز أن يكون مصدرا بمعنى "السلامة" أي لا خير بيننا ولا شر، فنحن مسلمون منكم، ويجوز أن يكون مرادا به لفظ " التحية" فيكون مستعملا في لازمه وهو "المُتَاركة"، لأن أصل استعمال لفظ السلام في التحية أنه يؤذن بالتأمين أي عدم الإهاجة.
التحرير والتنوير ج 19 ص69) فقد فسر الشيخ رحمه الله السلام بعدم الإهاجة، وهذا من بديع تفسيره وبليغ كلامه فاعلم أيها المسلم المتبع لسنن المهتدين أن الملاعنة تهيج الشيعة وتثير كوامن الحقد في نفوسهم، والمفروض أن نقول "سلاما" لا أن نقول مباهلة ولعنا، ولا يجوز أن نجاريهم في منكراتهم.

قد يقول قائل هل نتركهم في سكرة الضلالة يلعنون ويشتمون ونحن نقول لهم سلاما والجواب أننا بين أمرين لا ثالث لهما
إما أن نردعهم بسلطان الشّرع وحده، ونزجرهم عن قول السوء بعقابهم بما ناسب من شتى التعازير والحدود أو نخوفهم بالعقاب، كما كان الحال معهم من قبل وإما أن نبين جهلهم وعوارهم ونكشف بهتانهم ونوضح للناس أباطيلهم ورعونتهم وسوء أدبهم في ذكر أسلافهم فإن ما يفعلونه عقوق وصلف، إذا لم نكن قادرين على ردعهم بالعقوبة فأما أن نترك هذين الأمرين في مواجهة ما يقولونه ويدّعونه ونسارع معهم إلى الملاعنة والمباهلة، فهذا والله هو الجهل بعينه والتدافع إلى الهلاك بطمّه وطميمه فنعوذ بالله أن نكون من الجاهلين. 


 
بقلم: الدكتــــــور هشام قريسة

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire